عدنان بن عبد الله القطان

21 ربيع الآخر 1443هـ – 26 نوفمبر 2021 م

—————————————————————————

 

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمةِ الإيمان والإسلام، أنزل علينا خيرَ كُتبه، وأرسل إلينا أفضلَ رسُلُه، وشرع لنا أفضلَ شرائع دينه، له الحمد كلُّه، وبيده الخير كلُّه، وإليه يُرجع الأمر كلُّه، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لنا الخِيَرة سبحانه له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامهُ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن الله جل في علاه خلق الإنسان مدنياً بالطبع، يُوْثِر الاجتماع على العزلة، فتراه يمر في أطوار حياته، بين أبوين وإخوان، وأقاربَ وجيران، ومعارفَ وخُلان، وزوجٍ وولدان وقد حتَّم عليه الشرع الحنيف، حضور بعض العبادات جماعةً، وكل هذا يلزم أن يتقن فقه التعامل مع الناس، حتى يسلمَ من نزق الطبع، وطيش العقل؛ لأنه غالباً لا يسلم من أن يَجْهلَ أو يُجْهَلَ عليه.

وإن مُنْعِم النظر في أحوال بعض الناس في هذا الزمان، لَيجد أنهم يعانون من انشقاق العصا بينهم، ويلقوْن في ذلك نصَباً ناصباً، وذلك جرَّاءَ أمور مَهينة، انتهز الشيطان فيها فُرصة، واهتبل فيها غِرة، فصعَّد فيها وصوَّب، فانجلت عن شقاق، وسوء أخلاق.

وإليك أخي المسلم أختي المسلمة: أمثلة ليست من نسج الخيال، وإنما هي من واقع الحال: فهذا قد شاكس أباه على منعه حقاً له، لا يساوي معشار كد والده عليه. وهذا قد قاطع أخاه، لأجل اختلاف في قسمة ميراث. وهذا قد فارق زوجته، إثر سوء تفاهم بينهما يحدث مثله في الحياة الزوجية كثيراً. وهذا قد ترك حلقته التي يتعلم فيها القرآن، أو ترك الدراسة لأن أستاذه قسا عليه مرة. وهذا قد سخط على فلان من جماعة مسجدهم لأنه -بزعمه- قد ابتلاهم بفتح أجهزة التكييف في المسجد.. وهذا قد هجر جاره، لأن ولد جاره خاصم ابنه مرة. وهذا قد قطع صلة قريبه، لأنه تذرَّع به في شفاعة، فلم يشفع ولم يرفع. وهذا شكّاكٌ مرتاب تكاد مرارته تنفطر من الغيظ على فلان وفلان، لا لشيء، وإنما لأنه كلَّف نفسه ما لم تُكلَّف، فاشتغل بتفسير المقاصد، فهو ثائرٌ على فلان، لأنه قال كلمة في مجلس، يظن أنه لا يقصد غيره بها، وهو ساخطٌ على فلان، لأنه -بزعمه- متكبر، وافقه مرة فلم ينظر إليه إلا بطرْف فاتر، وهو منقبض عن فلان، لأنه فيما يظهر له يتلظى صدره عليه من الحسد. وتلك تخاصم امرأة ابنها، لأنها لم تقم بحقها، زعمت. وأخرى صرمت حبال الوصل مع شقيقتها، وذلك لأجل خصومة أولادهما المتكررة. إلى غير تلك الأحوال التي تنقبض لها الصدور، وتشمئز منها النفوس، وتُحدِث فيها لوعة مؤلمة، ومسّاً موجعاً.

أيها المسلمون: وهذه بعض الإشارات، في نقاط، في فقه التعامل مع الناس، علَّها أن تنظم شملاً قد تمزق، وتجمع شتاتاً قد تفرق.

أولاً: توطين النفس على معاملة الناس بمحاسن الأخلاق، وجميل الخِلال، وهذا من مسلَّمات الدين، ولأجله بُعث سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ). والآيات والأحاديث التي تحث على التحلي بمكارم الأخلاق، وتنهى عن سفسافها كثيرة معلومة، وهي من أعظم ما يجلب الودَّ ويُحِلُّ الوفاق، وينفي الفُرقة ويزيل الشقاق وإنك لترى المرءَ الذي يُذكر بِغلَظ الطباع وفظاظة الأخلاق ما إن تبتسم في وجهه وتَهَشَّ له بكلام لين إلا وتجد أثر ذلك فيه.

ثانياً: معاملة الناس حسب طبائعهم التي أعطاهم الله إياها، فإن الله سبحانه كما قسم الأرزاق قسم الأخلاق، فمن الناس من هو حُرُّ الخلال، أَرْيَحِيُّ الطباع، يترقرق في وجهه ماء

البِشْر.. ومنهم من هو فظ الأخلاق، صعب المراس، كأنما قُدَّ من صخر. ومنهم من هو مبتغٍ بين ذلك سبيلاً. وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن اللهَ خلَقَ آدمَ مِن قبضةٍ قَبَضَها مِن جميعِ الأرضِ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ: جاء منهم الأحمرُ والأبيضُ والأسودُ وبينَ ذلك، والخبيثُ والطيِّبُ والسَّهْلُ والحَزْنُ وبين ذلك) وبهذا يعلم أن معاملة الناس ينبغي ألا تكون على وتيرة واحدة، بل يعامَل كلٌ منهم حسب طبعه. وقد حفظت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موقفاً من المواقف النبوية التي تدل على حِذْقه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس، تقول أمنا عائشة: أنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ علَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قالَ: بئْسَ أخُو العَشِيرَةِ، وبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في وجْهِهِ وانْبَسَطَ إلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قالَتْ له عَائِشَةُ: يا رَسولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ له كَذَا وكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ في وجْهِهِ وانْبَسَطْتَ إلَيْهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً؟ إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ).  يعني يا عائشة متَى علمْتِ أنَّني أتلفَّظُ بِالفُحشِ والبذاء مِنَ القولِ؟ ففَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع الرجل ذلكَ؛ مُداراةً واتقاءً لِشرِّه وفُحشِه وبذاءة لسانه… وبهذا يُعلم أن سبب كثير من الشقاق وسوء الوفاق بين ابن وأبيه، أو أخ وأخيه، أو زوج وزوجته، أو صديق مع صديقه، أو إمام وبعض جماعة مسجده، أو نحو ذلك، إنما هو بسبب الجهل بالطبائع ونوع الأنفس.

ثالثاً: معاملة الناس حسب منازلهم التي أنزلهم الله إياها، فالناس فيهم العالم والجاهل والحاكم والمحكوم والسائد والمسود، والغني والفقير والكبير والصغير والعاقل والمجنون وغيرهم، فيعامل كلٌ حسب منـزلته لا وكس ولا شطط. فلا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم. يقول صلى الله عليه وسلم: (أرانِي في المنام أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فجَاءَنِي رَجُلانِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي: كَبِّر، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكبر، مِنْهُمَا). ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ). ويقول صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ شَرفَ كَبِيرِنَا) بل انظر إلى مَلَكَة الحكمة التي أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحاً فجاء أبو سفيان فأسلم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم تثبيت إسلامه، فقال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فأبو سفيان من سادات قريش، ومثله يحب الفخر، فأشبع الرسول صلى الله عليه وسلم مشاعره بهذه الجملة. وهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أولئك الرجال السادة في أقوامهم الذين كانوا حدثاء عهد بكفر، فكان يعطيهم ما لا يعطي غيرهم.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي أرسله إلى هرقل: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِه إلى هِرَقلَ عظيم الروم) فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (عظيم الروم) إلى غير ذلك من الأحاديث الوافرة في هذا الجانب، التي تحتِّم أن يُعطَى كلُّ ذي منـزلةٍ حقَّه اللائق بحاله، فللملك والحاكم والأمير حق، وللعالم حق، وللوجيه حق وللوالد حق وللولد حق وللزوج حق، وللزوجة حق وللكبير حق وللصغير حق وللتلميذ حق ولإمام المسجد حق، ولناقص العقل حق وكلّ له حق بحسبه، فلإنزال الناس منازلهم سبب متين لتقوية آصرة الألفة والمودة، ونبذ الشقاق وسوء الأخلاق.

رابعاً: معاملة الناس حسب ظواهرهم، فلا يُشتغل بتفسير المقاصد، فمن الناس من تجده شكّاكاً في الناس، مرتاباً في تعاملهم معه، تتجاذبه فيهم الظنون، وتتوارد عليه الرِّيب، فلسان حاله: فلان قد رابني أمره، ولست على يقين من فلان، وإني لفي مرية من فلان.

فلا يزال هذا المسكين يعاني في هذا الأمر صعَداً، ويقاسي منه نَصَباً، حتى يخلد إلى الانزواء، فيتفرق شمله، وينتثر نظمه. وإن في هذا الفعل مُجافاةً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث) وقد ورد في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع الناس حسب ظواهرهم، دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، وكان: صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ  وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ)  ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبد الله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون..

يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْيِ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإنَّما نَأْخُذُكُمُ الآنَ بما ظَهَرَ لَنَا مِن أعْمَالِكُمْ، فمَن أظْهَرَ لَنَا خَيْرًا، أمِنَّاهُ وقَرَّبْنَاهُ، وليسَ إلَيْنَا مِن سَرِيرَتِهِ شَيءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، ومَن أظْهَرَ لَنَا سُوءًا، لَمْ نَأْمَنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ، وإنْ قالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ).

خامساً: في فقه التعامل مع الناس: استحضار أن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه لم يسلم منه إلا مَن عصمه الله من أنبيائه ورسله، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ) فمن الخطأ أن يتصور امرؤٌ مثاليةً في شخص، سواء كان امرأة سيتزوجها، أو عالماً سيتتلمذ عليه، أو رجلاً سيخالطه ويعاشره، أو غير ذلك، ثم يحاسبه بناء على ذلك، وربما انتبذ عنه مكاناً قصياً، بل عليه أن يعامله معاملةً واقعيةً، نابعةً عن معرفة بطبيعة البشر التي يعتريها الجهل والخطأ والنسيان..

وتأمل في جواب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما قال له راويته: كان غُنْدَر الهذلي يغلظ؟ أي كان فظاً غليظاً مع الناس قال: (أليس هو من الناس؟!). وأمعِن النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقول: (وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة). فكل هذه الأدلة تبين بجلاء أنه يتحتم على المسلم أن يعامل أخاه بما يظهر منه ويكل سريرته إلى الله، وبذلك تقوى صِلاته، وتطمئن نفسه وتنجلي عنه مزعجات التفكير، ودوامات القلق..

اللهم أهدنا لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقنا سيء الأعمال وسيء الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: الأمر السادس في فقه التعامل مع الناس، قبول أعذار الناس: فبما أن الإنسان لا يزال في حيِّز البشرية، يَرِدُ عليه الخطأ في تعامله مع الناس، فإن كفارة ذلك الذنب هو اعتذار ممن أخطأ معه. ويتأكد في حق من اعتذر منه أن يقبل عذره، ويكل سريرته إلى الله عز وجل، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما جاءه المخلَّفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، قَبِلَ علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله، وهو -مع ذلك- لا يصدِّق أحداً منهم، بدليل أنه لما جاءه كعب بن مالك رضي الله عنه وأخبره بحقيقة أمره، قال: (أما هذا فقد صدق). يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (من أساء إليك ثم جاء  يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً وتكل سريرته إلى الله عز وجل..

اقبلْ معاذيرَ من يأتيك مُعتذراً

                                      إن برَّ عندك فيما قال أو فَجَرَا

فقد أطاعكَ من يُرضيكَ ظاهرُهُ

                                       وقد أجلَّك من يُعصيكَ مُستَتِرا

ومما يقوِّي المسلمَ في قبول عذر أخيه إذا اعتذر إليه، استشعارُه أنه ربما احتاج لمثل هذا الموقف الذي وقفه أخوه أمامه، فهل يسرُّه حينَها أن يُرَدَّ خاسئاً وهو حسير؟ فكما تدين تدان.. فما أجمل ذلك الأب الذي لما أتاه ابنه يلقي معاذيره، قبل عذره، وبرأه من الملام. وأكرِم بذاك الزوج الذي إذا اعتذرت إليه زوجته من التقصير، نفض عنها غبار اللوم، ووجد لها في ذلك عذراً بيناً.

سابعاً: في فقه التعامل مع الناس، العفو عن أخطاء الناس، ومقابلتها بالإحسان: امتثالاً لقول الله تعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم) يقول أهل التفسير: فإذا أساء إليك مسيء من الخَلْق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو الفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك خطابك، فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة). نعم! فإن هذه لخلة شديدة على النفس، لا يسْتطيعها إلا رجلٌ موفقٌ، قد تَسَنَّمَ ذِرْوَةَ المجد، وأمَّ معالي الأمور، فكرمت خليقته، ونبُلت نفسه، وجزُلت مروءته، فهمَّته قصيَّة المرمى، رفيعة المناط، قد تخطى هذه الأقذاء، وجاوز هاتيك الحفر، فلم تلن قناته لغامز. عن أنس رضي الله عنه قال: (كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ) سبحان الله عباد الله! ما أعظم أخلاق هذا الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم التي تملأ الصدور عظمة وإجلالاً! كيف قابل نزَقَ هذا الأعرابي وطيشَه، بهذه الأريحية وهذا الندى؟ إنها رفعةٌ لا تُسامى وعظمةٌ لا تُغالب، وعلى هذا النهج النبوي سار شرفاء الناس وعظماؤهم. وبمثل هؤلاء تكون القدوة والأسوة، (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً)

اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء والأدواء.

اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ. اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم وفِّق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء.. اللهم كُن للمُستضعَفين المُضطهَدين في كل مكان، اللهم كُن لهم، وأيِّدهم، وارفَع الظُّلم والضَّيمَ عنهم، اللهم وفِّقهم لهُداك، واجعَل عملَهم في رِضاك يا رب العالمين. اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله وفك أسره، وأحي في قلوب المسلمين والمؤمنين حبه ونصرته واجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين

اللهم اللهم أشف مرضانا وارحم موتانا، واغفِر لآبائنا وأمهاتنا كما ربَّونا صغاراً، اللهم من كان منهما ميتًاً فأنزِل على قبره شآبيبَ الرحمات، وافسِح له في قبره مدَّ بصره، واجمَعنا به في جناتك جنات النعيم، من غير حسابٍ ولا عقابٍ، برحمتك يا أرحم الراحمين، ومن كان منهما حيًّا فأطِل في عمره، وأحسن في عمله، واختِم لنا وله بخاتمة الإحسان، برحمتك يا منَّان يا ذا الجلال والإكرام.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين